Text Practice Mode
ثماني سنوات على الثورة الليبية: مراحل متعددة وركود سياسي
created Feb 25th 2019, 13:53 by mostafanasser
0
1542 words
1 completed
0
Rating visible after 3 or more votes
00:00
انطلقت شرارة الثورة الليبية في 17 فبراير عام 2011 من مدينة بنغازي. ورغم أنها جاءت ضمن ما عُرف بموجة "الربيع العربي"، إلا أنها أخذت نمطًا اختلف كثيرًا عن باقي الثورات العربية التي سبقتها خلال ذلك العام، سواء في مصر أو في تونس، على نحو يمكن اعتبارها نموذجًا متفردًا في سياق ثورات الربيع العربي، سواء فيما يتعلق بأصولها، أو فيما يتعلق بتطور العملية الثورية وما يندرج تحتها من أحداث عسكرية وفعاليات سياسية، أو فيما يتعلق بالمراحل المختلفة التي مرت بها ليبيا -ولازالت- في مرحلة ما بعد الثورة وإسقاط نظام معمر القذافي.
ويحاول هذا المقال رصد وتحليل المشهد الإجمالي لنتائج هذه الثورة ومُخرجاتها بعد مرور ثماني سنوات على انطلاقها، من خلال تقسيم تطور الثورة إلى عدد من المراحل، ذات الملامح المتمايزة، والعوامل التي أفضت لكل مرحلة تالية، بهدف الوصول إلى إطار مُفسر للوضع الراهن بعد مرور ثماني سنوات.
ليبيا كنموذج لثورات الربيع العربي بها الكثير من التعقيد، سواء بسبب الطبيعة البُنيوية للدولة في ليبيا، أو بسبب الانحيازات المختلفة داخل المجتمع الليبي على الأصعدة السياسية والقبلية والجهوية والنخبوية. كما أن طريقة تطور الصراع العسكري في ليبيا كان له تأثيره على ما مرت به الثورة من مراحل، وما تشهده ليبيا من وضع قائم، سياسيا وعسكريًا، في اللحظة الراهنة. وبالإضافة إلى ذلك، هناك البُعد الخاص بالتحالفات والتدخلات الإقليمية والدولية في الشأن الليبي منذ بدء الثورة، وهي عوامل صنعت الكثير من التغيرات في الداخل الليبي خلال السنوات الماضية.
المرحلة الأولى: الثورة والمجلس الوطني الانتقالي
كان المشهد في ليبيا إبان اندلاع الثورة مختلفًا كثيرًا عن المشهد في كل من مصر وتونس، فلم يبدي النظام الليبي بقيادة معمر القذافي أي بوادر للتفاهم مع الثوار مثلما فعل كل من زين العابدين بن علي أو محمد حسني مبارك، حيث سعى كل منهما لتقديم مبادرات للإصلاح في محاولة لتهدئة الغضب الجماهيري. لكن معمر القذافي كان له نهج مختلف، حيث رفض الاستماع للمطالب التي رفعتها الجماهير (خاصة في شرق ليبيا)، اتهمهم بالتآمر والعمالة، بل واتهمهم أيضًا بتعاطي "حبوب هلوسة"، وهو ما جاء على لسانه خلال خطاباته وبيانته الرسمية خلال تلك الفترة. وبالتالي، تحول الخلاف سريعًا لصدام مسلح بين الثوار وبين قوات الدولة (أو كتائب القذافي) خلال تلك الفترة.
من ناحية أخرى، شهدت ليبيا حالة من الانشقاق داخل الدولة عندما اندلعت شرارة الثورة، وهو البعد الذي جعل الثورة الليبية مختلفة عن ثورات مصر وتونس التي لم تشهد تصدعات في هيكل الدولة. ربما شهد النموذج الثوري في سوريا مثل هذه التصدعات، لكنها كانت على أرضيات غير تلك التي خبرتها ليبيا. بعد اندلاع الثورة وموقف نظام معمر القذافي منها، بدأت تحدث عددًا من الانقسامات داخل الدولة الليبية، وكان على رأس هذه الانقسامات وزير العدل مصطفى عبد الجليل، الذي ترأس فيما بعد المجلس الوطني الانتقالي، واللواء عبد الفتاح يونس، وزير الداخلية في عهد معمر القذافي، وأحد أهم الشخصيات التي انشقت عن نظامه وقاد العديد من العمليات العسكرية ضد النظام في سياق الثورة. وقد تم اغتيال عبد الفتاح يونس قبل سقوط النظام بواسطة أطراف غير معلومة حتى الآن. كما ظهرت في المشهد الداخلي في ليبيا عدد من وجوه معارضة المهجر، مثل محمود جبريل وخليفة حفتر، الذين عادوا من الخارج للمشاركة في أحداث الثورة، وهو ما يعني أن نموذج الثورة في ليبيا شهد بعد وقت قليل حالة من إعادة تشكيل النخب السياسية والعسكرية، وأيضًا إعادة بناء عدد من التحالفات الدولية.
وسرعان ما اعترفت أطراف عديدة داخل المجتمع الدولي بشرعية المجلس الوطني الانتقالي برئاسة مصطفى عبد الجليل كممثل شرعي للدولة الليبية، حتى قبل أن يدخل الثوار إلى طرابلس ويتم القبض على معمر القذافي. لقد كان هذا الاعتراف بمثابة تطور جديد في سياق ثورات الربيع العربي، فلم تشهد ثورات تونس ومصر كيانات سياسية جديدة حظيت باعتراف المجتمع الدولي. وبعد نزاع مسلح بين الثوار وقوات نظام القذافي، وبعد تدخل دولي من قبل حلف الناتو من خلال عملية "فجر أوديسا"، تمكن الثوار من إسقاط نظام معمر القذافي، وباتت المسئولية الأولى للمجلس الوطني الانتقالي هي إعداد البلاد لعملية انتخابية تأتي بشرعية سياسية جديدة تقود البلاد في مرحلة ما بعد الثورة، وهي العملية التي نتجت عنها مرحلة جديدة في ليبيا، وهي مرحلة حكم المؤتمر الوطني العام.
المرحلة الثانية: المؤتمر الوطني العام
مرحلة حكم المؤتمر الوطني العام كانت مرحلة شديدة الجدلية. أولًا، ومثل العديد من نماذج ثورات الربيع العربي، أفرزت الانتخابات النيابية غلبة التيار الإسلامي، وهو نفس الوضع الذي شهدته تونس ومصر بعد الانتخابات النيابية التي تلت سقوط النظام في كل منهما. المؤتمر الوطني العام قاد ليبيا لحالة من الاستقطاب الشديد، وظهرت خلال فترة ولايته العديد من التشكيلات السياسية المعارضة له ولقراراته، حيث كان هناك تحيز شديد من قبل المؤتمر الوطني للتيار الإسلامي ومن يناصرونه من تيارات سياسية أخرى. ثم عرفت ليبيا في هذا الوقت انتشارًا واسعًا لتنظيمات الميليشيات التي فرضت سطوتها على رقع جغرافية من خلال القوة الجبرية للسلاح، وليس من خلال الشرعية السياسية. ومن ثم، بدأت الشرعية السياسية في ذهن ومدركات المواطن الليبي في التراجع، لتحل محلها شرعية السلاح الذي تتحكم به الميليشيات.
انتشار الميليشيات المسلحة، وضعف الأداء الأمني والبيروقراطي للمؤتمر الوطني العام كانا من بين أهم العوامل التي دفعت جموع الشعب الليبي للتظاهر ضد نفوذ المؤتمر، كونه غير قادر على تلبية مطالب الجماهير أو تحقيق أيٍّ من مطالب الثورة. وتزايدت المطالبات بإجراء انتخابات نيابية جديدة تضع المؤتمر الوطني العام أمام الاختبار بعد الأداء السيئ على المستوى الأمني والسياسي. بالفعل، أُجريت الانتخابات الجديدة في عام ٢٠١٤، كانت نتيجتها هي الإطاحة بالمؤتمر الوطني العام وفوز تحالف القوى الوطنية وعدد آخر من القوى السياسية لكي يشكلوا مجلس النواب. تلك كانت اللحظة التي اختلط فيها استخدام السلاح بالنفوذ الدولي والإقليمي، ونتج عنها حالة من الانقسام السياسي في ليبيا بين شرق وغرب. الغرب لم يعترف بنتائج الانتخابات التي أقصت أغلب أعضاء المؤتمر الوطني عن المشهد، وقام عدد من الميليشيات بالهجوم على المحكمة العليا في طرابلس لإلغاء نتيجة الانتخابات النيابية وإعادة المؤتمر الوطني العام للسلطة.
في تلك اللحظة، بات هناك صراع بين الشرعيات السياسية في ليبيا، وهو ما أخذ المشهد الإجمالي لمرحلة ما بعد الثورة في ليبيا لطريق شديد الاختلاف عما سبق، من ناحية، وعن سائر نماذج ثورات الربيع العربي، من ناحية أخرى. ومع ظهور التنافس بين الشرعيات في الداخل الليبي بدأ الخلاف يأخذ شكلا مختلفًا على المستويات الإقليمية والدولية.
المرحلة الثالثة: الانقسام السياسي
الانقسام السياسي، وصراع الشرعيات في ليبيا دفع بالنزاع العسكري لصدارة المشهد، حيث لم تعد المؤسسات السياسية قادرة على فرض سطوتها في الداخل الليبي، وبات هناك صراع سياسي وعسكري بين الشرق والغرب. سياسيًا كان هناك في الشرق مجلس النواب في طبرق، مقابل المؤتمر الوطني العام في طرابلس. وعسكريا، كانت هناك أذرع اتخذتها المؤسسات السياسية كحليف وأضفت عليها الشرعية، مثل "عملية الكرامة" في الشرق، والتي تحولت إلى "الجبش الوطني الليبي" بقيادة المشير خليفة حفتر، مقابل تحالف ميليشيات "فجر ليبيا" في الغرب والتي تبناها المؤتمر الوطني العام، وتحول بعضها بعد ذلك لتحالف "قوات البنيان المرصوص"، والتي قاومت سطوة تنظيم داعش في مدينة سرت بمساعدة جوية من الطيران الأمريكي.
حالة الانقسام السياسي كان لها مردودها من الناحيتين السياسية والعسكرية. النزاع العسكري بين الأطراف المتصارعة خلق سياقًا جديدًا في المشهد الداخلي. ففي حين نجحت قوات "البنيان المرصوص" في طرد تنظيم داعش من سرت بمساعدة طيران الولايات المتحدة، تمكنت قوات "الجيش الوطني الليبي" من استعادة موانئ النفط من ميليشيات حرس المنشآت النفطية بقيادة إبراهيم الجضران. هنا بات الخط الفاصل بين ما هو سياسي وما هو عسكري في سياق الصراع السياسي في ليبيا ضعيفا وغير واضح. لكن مفهوم الاستمرارية والقدرة على إحداث التغيير كانا من أهم العوامل التي رجحت كفة طرف تجاه الآخر في سياق الصراع.
المرحلة الرابعة: التسوية السياسية
ألقت الأمم المتحدة بكل ثقلها في الملف الليبي، من خلال برناردينو ليون، ثم مارتن كوبلر، ثم غسان سلامة، كمبعوثين عن الأمين العام للأمم المتحدة في سياق الصراع الليبي. وعلى الرغم من الاختلاف في المناهج والاقترابات، لم تتمكن الأمم المتحدة حتى الآن من صناعة تسوية سياسية فاعلة في المشهد الليبي. هناك الكثير من التجاذب بين الأطراف الفاعلة دوليًا في الملف الليبي، وعلى رأسهم كل من فرنسا وإيطاليا. كما أن هناك حالة من الاختلاف والتباين داخل الاتحاد الأوروبي بشأن الملف الليبي، وهو ما دفع دول الاتحاد لاتخاذ قراراتها بشكل أحادي وخارج سياق الاتحاد. كذلك، فإن الجداول الزمنية التي وضعها غسان سلامة طالما كانت غير واقعية، فإجراء انتخابات في ليبيا ليس قرارًا دوليا بقدر ما هو قرار وإجراء يعتمد بالأساس على تحولات الداخل الليبي، وإمكانية إقامة عملية سياسية مؤسسية في ظل المتغيرات المستمرة.
التسوية السياسية في ليبيا تشهد حاليا حالة من الركود. هذا الركود لا يرجع فقط لأداء مؤسسات المجتمع الدولي، لكنه يرجع أيضًا إلى مدى تقبل الداخل الليبي بفاعليه المختلفين لفكرة وتوقيت التسوية السياسية، وهو ما يبدو غير مفهوم من قبل غسان سلامة وسائر الفاعلين الدوليين المعنيين. لذا، التسوية السياسية في ليبيا لن تحدث إلا عندما يتم الربط بين ثلاثة أبعاد: الأول، هو الربط بين متطلبات المجتمع الدولي وواقع الداخل الليبي، والثاني هو حجم التواصل بين دول الجوار وبين المجتمع الدولي، والثالث هو اختيار الإجراء السياسي السليم الذي يتناسب مع المرحلة الحالية.
الدور المصري في الملف الليبي
يظل الدور المصري في الملف الليبي دورًا أكثر من محوري، وتعتمد عليه العديد من القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن الليبي. أحد أهم مصادر قوة الدور المصري في ليبيا أنه يستند إلى مجموعة من الثوابت ضمنت استقرار هذا الموقف على مدار السنوات الماضية؛ فمازالت مصر داعمة بقوة لإرساء حل ليبي- ليبي دون تدخل أطراف دولية أو إقليمية، كما أنها ترفض وبشدة فكرة تقسيم ليبيا، أو العبث بمنظومة الأمن القومي في المنطقة على أرضية الصراع السياسي. كما تعمل مصر على عدد من المستويات لتعزيز فرص تحقيق رؤيتها بشكل عملي.
خلاصة القول، إن الأزمة الليبية لا تقترب لنهاية سلمية في الوقت الحالي، بل تتصاعد النزاعات العسكرية، سواء في الغرب أو في الجنوب، والتي سيكون لها تأثيرها الضخم على مستقبل تسوية الأزمة سياسيًا. الخلافات الدولية حول الملف، مثل الخلاف بين فرنسا وإيطاليا، هو أحد أهم أسباب تعطيل التسوية السياسية، لكن بعد ثمان سنوات من الثورة، تظل ليبيا محاصرة بين الحل السياسي والحل العسكري، ولكل منهم سياقه الخاص، وفاعليه ممن يمتلكون النفوذ.
ويحاول هذا المقال رصد وتحليل المشهد الإجمالي لنتائج هذه الثورة ومُخرجاتها بعد مرور ثماني سنوات على انطلاقها، من خلال تقسيم تطور الثورة إلى عدد من المراحل، ذات الملامح المتمايزة، والعوامل التي أفضت لكل مرحلة تالية، بهدف الوصول إلى إطار مُفسر للوضع الراهن بعد مرور ثماني سنوات.
ليبيا كنموذج لثورات الربيع العربي بها الكثير من التعقيد، سواء بسبب الطبيعة البُنيوية للدولة في ليبيا، أو بسبب الانحيازات المختلفة داخل المجتمع الليبي على الأصعدة السياسية والقبلية والجهوية والنخبوية. كما أن طريقة تطور الصراع العسكري في ليبيا كان له تأثيره على ما مرت به الثورة من مراحل، وما تشهده ليبيا من وضع قائم، سياسيا وعسكريًا، في اللحظة الراهنة. وبالإضافة إلى ذلك، هناك البُعد الخاص بالتحالفات والتدخلات الإقليمية والدولية في الشأن الليبي منذ بدء الثورة، وهي عوامل صنعت الكثير من التغيرات في الداخل الليبي خلال السنوات الماضية.
المرحلة الأولى: الثورة والمجلس الوطني الانتقالي
كان المشهد في ليبيا إبان اندلاع الثورة مختلفًا كثيرًا عن المشهد في كل من مصر وتونس، فلم يبدي النظام الليبي بقيادة معمر القذافي أي بوادر للتفاهم مع الثوار مثلما فعل كل من زين العابدين بن علي أو محمد حسني مبارك، حيث سعى كل منهما لتقديم مبادرات للإصلاح في محاولة لتهدئة الغضب الجماهيري. لكن معمر القذافي كان له نهج مختلف، حيث رفض الاستماع للمطالب التي رفعتها الجماهير (خاصة في شرق ليبيا)، اتهمهم بالتآمر والعمالة، بل واتهمهم أيضًا بتعاطي "حبوب هلوسة"، وهو ما جاء على لسانه خلال خطاباته وبيانته الرسمية خلال تلك الفترة. وبالتالي، تحول الخلاف سريعًا لصدام مسلح بين الثوار وبين قوات الدولة (أو كتائب القذافي) خلال تلك الفترة.
من ناحية أخرى، شهدت ليبيا حالة من الانشقاق داخل الدولة عندما اندلعت شرارة الثورة، وهو البعد الذي جعل الثورة الليبية مختلفة عن ثورات مصر وتونس التي لم تشهد تصدعات في هيكل الدولة. ربما شهد النموذج الثوري في سوريا مثل هذه التصدعات، لكنها كانت على أرضيات غير تلك التي خبرتها ليبيا. بعد اندلاع الثورة وموقف نظام معمر القذافي منها، بدأت تحدث عددًا من الانقسامات داخل الدولة الليبية، وكان على رأس هذه الانقسامات وزير العدل مصطفى عبد الجليل، الذي ترأس فيما بعد المجلس الوطني الانتقالي، واللواء عبد الفتاح يونس، وزير الداخلية في عهد معمر القذافي، وأحد أهم الشخصيات التي انشقت عن نظامه وقاد العديد من العمليات العسكرية ضد النظام في سياق الثورة. وقد تم اغتيال عبد الفتاح يونس قبل سقوط النظام بواسطة أطراف غير معلومة حتى الآن. كما ظهرت في المشهد الداخلي في ليبيا عدد من وجوه معارضة المهجر، مثل محمود جبريل وخليفة حفتر، الذين عادوا من الخارج للمشاركة في أحداث الثورة، وهو ما يعني أن نموذج الثورة في ليبيا شهد بعد وقت قليل حالة من إعادة تشكيل النخب السياسية والعسكرية، وأيضًا إعادة بناء عدد من التحالفات الدولية.
وسرعان ما اعترفت أطراف عديدة داخل المجتمع الدولي بشرعية المجلس الوطني الانتقالي برئاسة مصطفى عبد الجليل كممثل شرعي للدولة الليبية، حتى قبل أن يدخل الثوار إلى طرابلس ويتم القبض على معمر القذافي. لقد كان هذا الاعتراف بمثابة تطور جديد في سياق ثورات الربيع العربي، فلم تشهد ثورات تونس ومصر كيانات سياسية جديدة حظيت باعتراف المجتمع الدولي. وبعد نزاع مسلح بين الثوار وقوات نظام القذافي، وبعد تدخل دولي من قبل حلف الناتو من خلال عملية "فجر أوديسا"، تمكن الثوار من إسقاط نظام معمر القذافي، وباتت المسئولية الأولى للمجلس الوطني الانتقالي هي إعداد البلاد لعملية انتخابية تأتي بشرعية سياسية جديدة تقود البلاد في مرحلة ما بعد الثورة، وهي العملية التي نتجت عنها مرحلة جديدة في ليبيا، وهي مرحلة حكم المؤتمر الوطني العام.
المرحلة الثانية: المؤتمر الوطني العام
مرحلة حكم المؤتمر الوطني العام كانت مرحلة شديدة الجدلية. أولًا، ومثل العديد من نماذج ثورات الربيع العربي، أفرزت الانتخابات النيابية غلبة التيار الإسلامي، وهو نفس الوضع الذي شهدته تونس ومصر بعد الانتخابات النيابية التي تلت سقوط النظام في كل منهما. المؤتمر الوطني العام قاد ليبيا لحالة من الاستقطاب الشديد، وظهرت خلال فترة ولايته العديد من التشكيلات السياسية المعارضة له ولقراراته، حيث كان هناك تحيز شديد من قبل المؤتمر الوطني للتيار الإسلامي ومن يناصرونه من تيارات سياسية أخرى. ثم عرفت ليبيا في هذا الوقت انتشارًا واسعًا لتنظيمات الميليشيات التي فرضت سطوتها على رقع جغرافية من خلال القوة الجبرية للسلاح، وليس من خلال الشرعية السياسية. ومن ثم، بدأت الشرعية السياسية في ذهن ومدركات المواطن الليبي في التراجع، لتحل محلها شرعية السلاح الذي تتحكم به الميليشيات.
انتشار الميليشيات المسلحة، وضعف الأداء الأمني والبيروقراطي للمؤتمر الوطني العام كانا من بين أهم العوامل التي دفعت جموع الشعب الليبي للتظاهر ضد نفوذ المؤتمر، كونه غير قادر على تلبية مطالب الجماهير أو تحقيق أيٍّ من مطالب الثورة. وتزايدت المطالبات بإجراء انتخابات نيابية جديدة تضع المؤتمر الوطني العام أمام الاختبار بعد الأداء السيئ على المستوى الأمني والسياسي. بالفعل، أُجريت الانتخابات الجديدة في عام ٢٠١٤، كانت نتيجتها هي الإطاحة بالمؤتمر الوطني العام وفوز تحالف القوى الوطنية وعدد آخر من القوى السياسية لكي يشكلوا مجلس النواب. تلك كانت اللحظة التي اختلط فيها استخدام السلاح بالنفوذ الدولي والإقليمي، ونتج عنها حالة من الانقسام السياسي في ليبيا بين شرق وغرب. الغرب لم يعترف بنتائج الانتخابات التي أقصت أغلب أعضاء المؤتمر الوطني عن المشهد، وقام عدد من الميليشيات بالهجوم على المحكمة العليا في طرابلس لإلغاء نتيجة الانتخابات النيابية وإعادة المؤتمر الوطني العام للسلطة.
في تلك اللحظة، بات هناك صراع بين الشرعيات السياسية في ليبيا، وهو ما أخذ المشهد الإجمالي لمرحلة ما بعد الثورة في ليبيا لطريق شديد الاختلاف عما سبق، من ناحية، وعن سائر نماذج ثورات الربيع العربي، من ناحية أخرى. ومع ظهور التنافس بين الشرعيات في الداخل الليبي بدأ الخلاف يأخذ شكلا مختلفًا على المستويات الإقليمية والدولية.
المرحلة الثالثة: الانقسام السياسي
الانقسام السياسي، وصراع الشرعيات في ليبيا دفع بالنزاع العسكري لصدارة المشهد، حيث لم تعد المؤسسات السياسية قادرة على فرض سطوتها في الداخل الليبي، وبات هناك صراع سياسي وعسكري بين الشرق والغرب. سياسيًا كان هناك في الشرق مجلس النواب في طبرق، مقابل المؤتمر الوطني العام في طرابلس. وعسكريا، كانت هناك أذرع اتخذتها المؤسسات السياسية كحليف وأضفت عليها الشرعية، مثل "عملية الكرامة" في الشرق، والتي تحولت إلى "الجبش الوطني الليبي" بقيادة المشير خليفة حفتر، مقابل تحالف ميليشيات "فجر ليبيا" في الغرب والتي تبناها المؤتمر الوطني العام، وتحول بعضها بعد ذلك لتحالف "قوات البنيان المرصوص"، والتي قاومت سطوة تنظيم داعش في مدينة سرت بمساعدة جوية من الطيران الأمريكي.
حالة الانقسام السياسي كان لها مردودها من الناحيتين السياسية والعسكرية. النزاع العسكري بين الأطراف المتصارعة خلق سياقًا جديدًا في المشهد الداخلي. ففي حين نجحت قوات "البنيان المرصوص" في طرد تنظيم داعش من سرت بمساعدة طيران الولايات المتحدة، تمكنت قوات "الجيش الوطني الليبي" من استعادة موانئ النفط من ميليشيات حرس المنشآت النفطية بقيادة إبراهيم الجضران. هنا بات الخط الفاصل بين ما هو سياسي وما هو عسكري في سياق الصراع السياسي في ليبيا ضعيفا وغير واضح. لكن مفهوم الاستمرارية والقدرة على إحداث التغيير كانا من أهم العوامل التي رجحت كفة طرف تجاه الآخر في سياق الصراع.
المرحلة الرابعة: التسوية السياسية
ألقت الأمم المتحدة بكل ثقلها في الملف الليبي، من خلال برناردينو ليون، ثم مارتن كوبلر، ثم غسان سلامة، كمبعوثين عن الأمين العام للأمم المتحدة في سياق الصراع الليبي. وعلى الرغم من الاختلاف في المناهج والاقترابات، لم تتمكن الأمم المتحدة حتى الآن من صناعة تسوية سياسية فاعلة في المشهد الليبي. هناك الكثير من التجاذب بين الأطراف الفاعلة دوليًا في الملف الليبي، وعلى رأسهم كل من فرنسا وإيطاليا. كما أن هناك حالة من الاختلاف والتباين داخل الاتحاد الأوروبي بشأن الملف الليبي، وهو ما دفع دول الاتحاد لاتخاذ قراراتها بشكل أحادي وخارج سياق الاتحاد. كذلك، فإن الجداول الزمنية التي وضعها غسان سلامة طالما كانت غير واقعية، فإجراء انتخابات في ليبيا ليس قرارًا دوليا بقدر ما هو قرار وإجراء يعتمد بالأساس على تحولات الداخل الليبي، وإمكانية إقامة عملية سياسية مؤسسية في ظل المتغيرات المستمرة.
التسوية السياسية في ليبيا تشهد حاليا حالة من الركود. هذا الركود لا يرجع فقط لأداء مؤسسات المجتمع الدولي، لكنه يرجع أيضًا إلى مدى تقبل الداخل الليبي بفاعليه المختلفين لفكرة وتوقيت التسوية السياسية، وهو ما يبدو غير مفهوم من قبل غسان سلامة وسائر الفاعلين الدوليين المعنيين. لذا، التسوية السياسية في ليبيا لن تحدث إلا عندما يتم الربط بين ثلاثة أبعاد: الأول، هو الربط بين متطلبات المجتمع الدولي وواقع الداخل الليبي، والثاني هو حجم التواصل بين دول الجوار وبين المجتمع الدولي، والثالث هو اختيار الإجراء السياسي السليم الذي يتناسب مع المرحلة الحالية.
الدور المصري في الملف الليبي
يظل الدور المصري في الملف الليبي دورًا أكثر من محوري، وتعتمد عليه العديد من القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن الليبي. أحد أهم مصادر قوة الدور المصري في ليبيا أنه يستند إلى مجموعة من الثوابت ضمنت استقرار هذا الموقف على مدار السنوات الماضية؛ فمازالت مصر داعمة بقوة لإرساء حل ليبي- ليبي دون تدخل أطراف دولية أو إقليمية، كما أنها ترفض وبشدة فكرة تقسيم ليبيا، أو العبث بمنظومة الأمن القومي في المنطقة على أرضية الصراع السياسي. كما تعمل مصر على عدد من المستويات لتعزيز فرص تحقيق رؤيتها بشكل عملي.
خلاصة القول، إن الأزمة الليبية لا تقترب لنهاية سلمية في الوقت الحالي، بل تتصاعد النزاعات العسكرية، سواء في الغرب أو في الجنوب، والتي سيكون لها تأثيرها الضخم على مستقبل تسوية الأزمة سياسيًا. الخلافات الدولية حول الملف، مثل الخلاف بين فرنسا وإيطاليا، هو أحد أهم أسباب تعطيل التسوية السياسية، لكن بعد ثمان سنوات من الثورة، تظل ليبيا محاصرة بين الحل السياسي والحل العسكري، ولكل منهم سياقه الخاص، وفاعليه ممن يمتلكون النفوذ.
saving score / loading statistics ...